(فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ).
ولِمَ لا وهو الصادق الأمين؟ لذلك يتقدّم بأقرب الناس إليه، فاطمة وعلي والحسن والحسين (عليهم السلام)، ليبتهل بهم إلى الله تعالى، وهو أمرٌ لا يقدِمُ عليه إلا من كان واثقاً برسالته ومؤمناً بعدالة قضيته وواثقا من تسديد الله تعالى له، وهي كلها صفات اجتمعت في رسول الله (ص) لذلك لم يتردد في اصطحاب أهل بيته للمباهلة مع أهل الكتاب، والذين قال عنهم الله تعالى في محكم كتابه الكريم: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا).
وفي ليلة الخامس عشر من شهر رمضان المبارك، ليلة ولادة السبط الأكبر لرسول الله (ص) الإمام الحسن بن علي المجتبى (عليهم السلام)، وهو أحد الخمسة الذين طهرهم الله تطهيرا، تقفز إلى الأذهان قضية (الصلح) الذي أبرمه مع الطاغية ابن آكلة الأكباد معاوية بن أبي سفيان بن هند بن حمامة صاحبة الراية في الجاهلية.
لا أريد هنا أن أتحدث عن تفاصيل القضية، وأسباب (الصلح) وشروطه ونتائجه، وإنما اريد أن أتحدث هنا، وفي هذه المساحة الصغيرة، عن الأسس التي بنى عليها أهل البيت (عليهم السلام) مواقفهم ومنهجيتهم من تطورات الأحداث التي عاشوها وعاصروها ومروا عليها، والتي شخّصت في سِيٓرِهِم مبدأ (وحدة الهدف وتعدد الأدوار).
الأساس الأول: هو انّهم يتعاملون بواقعية بعيداً عن أي نوع من أنواع المثالية، من جانب، وبعيداً عن أي نوع من أنواع الغيب، من جانب آخر، ولذلك، مثلاً، قٓبِلٓ الإمام أمير المؤمنين (ع) أن يكون عضواً في الشورى الستة التي عيّنها الخليفة الثاني قبيل وفاته، مع كلِّ المؤاخذات والملاحظات (الشرعية) التي كانت عنده عليها، لأنّها كانت واقعاً سياسياً سعى لتوظيفه فيما بعد لتحقيق الهدف الأسمى بالنسبة له، ألا وهو خدمة الأمة وإنقاذها من ورطتها عندما تشتد الخطوب، وذلك في إطار نظرة ثاقبة للأمور تقرأ المستقبل بشكل سليم وصحيح.
وهكذا بالنسبة لصلح الإمام الحسن (ع) وثورة الإمام الحسين (ع) وقبول الإمام الرضا (ع) لولاية العهد، وغير ذلك من المواقف والسِّيٓر المعروفة عن أئمة أهل البيت (ع) وانّ من يحاول تفسيرها بشكل تعسفي من خلال إقحام المثاليات والغيب والمعاجز، بسبب عدم فهمه واستيعابه لهذه السِّيٓر العطرة، فإنما يظلم الحقيقة ويضحك على نفسه، وهو يحاول، بذلك، التهرب من المسؤولية من خلال التعامل مع أئمة اهل البيت (ع) وكأنهم ليسوا بشراً وأنهم لا يخطون خطوة واحدة قبل أن يرسم لهم الغيب ما يجب عليهم فعله، وانّ كلّ ما فعلوه لا يتعدى خارطة الطريق المرسومة لهم غيبياً، فهم مسيّرون، إذن، حسب هذا التفسير، فكيف تريدنا أن نحذو حذوهم؟ ونسير بسيرتهم؟ ونتخذهم أسوة وقدوة في حياتنا اليومية؟ وهو بيت القصيد ومربط الفرس، كما يقولون، من أي تفسير تعسفي لحياة وسيرة أهل البيت (ع).
اما الأساس الثاني؛ فهو انّهم، عليهم السلام، يقدمون المصلحة العليا للأمة على كلِّ المصالح الأخرى، وبقراءة سريعة للمنهج الذي ساروا عليه في ظل مختلف الظروف الاجتماعية والسياسية، فسنجد انّه حٓفِظٓ للأمة، في كلِّ مرة، مصلحتها العليا، ولو لم تتحقق في كلِّ مرة لما تبنّوه وساروا عليه أبدا، فعندما صرف الإمام علي (ع) النظر عن حقه بالخلافة بعد وفاة رسول الله (ص) فإنما لتحقيق الصالح العام فقط وليس لأي شيء آخر، ولقد شرح الإمام ذلك بقوله: "فلمَّا مَضى (صلى الله عليه وآله) تنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ الامْرَ مِنْ بَعْدِهِ، فَوَاللهِ مَا كَانَ يُلْقَى فِي رُوعِي، وَلاَ يَخْطُرُ بِبَالِي، أَنَّ الْعَرَبَ تُزْعِجُ هذَا الامْرَ مِنْ بَعْدِهِ (صلى الله عليه وآله) عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَلاَ أَنَّهُمْ مُنَحُّوهُ عَنِّي مِنْ بَعْدِهِ! فَمَا رَاعَنِي إِلاَّ انْثِيَالُ النَّاسِ عَلَى فُلاَن يُبَايِعُونَهُ، فَأَمْسَكْتُ يَدِي حَتَّى رَأيْتُ رَاجِعَةَ النَّاسِ قَدْ رَجَعَتْ عَنِ الإسْلاَمِ، يَدْعُونَ إِلَى مَحْقِ دِينِ مُحَمَّد (صلى الله عليه وآله) فَخَشِيتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ الإسْلاَمَ أَهْلَهُ أَنْ أَرَى فِيهِ ثَلْماً أَوْ هَدْماً، تَكُونُ الْمُصِيبَةُ بِهِ عَلَيَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلاَيَتِكُمُ الَّتِي إِنَّمَا هِيَ مَتَاعُ أَيَّام قَلاَئِلَ، يَزُولُ مِنْهَا مَا كَانَ، كَمَا يَزُولُ السَّرَابُ، أَوْ كَمَا يَتَقَشَّعُ السَّحَابُ، فَنَهَضْتُ فِي تِلْكَ الأحْدَاثِ حَتَّى زَاحَ الْبَاطِلُ وَزَهَقَ، وَاطْمَأَنَّ الدِّينُ وَتَنَهْنَهَ".
وهكذا هو الأمر لبقية المواقف وتفاصيل النهج الذي التزم به أهل البيت (ع) كما هو الحال، مثلاً، في (صلح) الإمام الحسن (ع).
الأساس الثالث: هو انّهم، عليهم السلام، يحاولون إقناع الأمة بالشيء الصحيح، بالحكمة والموعظة الحسنة والحوار والمنطق والمحاججة السليمة، بعيداً عن أي نوع من أنواع الفرض والإكراه والتعسف، وبعيداً عن استخدام القوة والسيف، التزاما بالنهج القرآني الواضح بهذا الشأن، والذي يحدثنا عنه رب العزة بقوله: (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ) حتى إذا أفسدت الأمة رأيهم بالعصيان، ولم تقتنع بالحقِّ، واختارت الأغلبية أمراً، فلم يكن للإمام أن يرفض ويفرض عليهم شيئاً يكرهونه أبداً، ولذلك قبل الإمام أمير المؤمنين (ع) بالتحكيم ليس لإيمانه به واعتقاده بصحة الفعل، أبداً، وإنما لاختيار الأغلبية لهذا النهج، وهو، عليه السلام، كان يعلم علم اليقين بخطئه، وأنهم سيندمون عليه، إلا انه (ع) أمضاه لتتحمل الأمة مسؤولية قرارها، أخطأً كان أم صحيحاً.
كذلك، إنما قبل الإمام الحسن (ع) (الصلح) مع الطاغية معاوية بعد أن رأى أغلبية (الأمة) كارهة للحرب، وانّ لا طاقة لها على خوض غمارها، فلقد شرح الإمام (عليه السلام) ذلك في معرض جوابه على سؤال أكثر من واحد من أصحابه عن علة (الصلح) وسر عدم خوضه الحرب ضد الطاغية معاوية الذي كان يمثل بجماعته الفئة الباغية بنص القرآن الكريم: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) فقال (عليه السلام): "اني رأيت هوى معظم الناس في الصلح، وكرهوا الحرب، فلم أحب أن أحملهم على ما يكرهون" ولطالما استفتاهم الإمام قبل أن يعقد (الصلح) مع الطاغية، بقوله: "الا وانّ معاوية دعانا لأمر ليس فيه عزٌّ ولا نٓصٓفٓة، فإن أردتم الموت رددناه عليه، وحاكمناه إلى الله عز وجل بظبا السيوف، وإن أردتم الحياة قبلناه، وأخذنا لكم الرضا" فكان يناديه الناس، في كلِّ مرة، من كلِّ جانب: البقية، البقية!!!.
والآن: أين نحن من هذا النهج الرسالي؟.
وكلّ رمضان وأنتم بخير.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق